كلمة الامير محمد الحسن الرضا المهدي السنوسي
الى الأمة الليبية
بمناسبة الذّكرى السّابعة والسبعين لتأسيس الجيش الليبي
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين
أيها الشّعب الِلّيبيّ الكريم
السّلام عـليكم ورحـمة الله وبـركـاتـه
يصادف اليوم التاسع مِن أغسطسِ الذّكرى السّابعة والسبعين لتأسيس الجيش الِلّيبيّ، فقد صدر فِي التاسع مِن أغسطس 1940م قرار بتشكيل (جيش التَّحرير) بعْد أن اجتمع أربعون شخصاً مِن الشخصيّات الوطنيّة الممثلة لكافة الطيف الِلّيبيّ بمختلف مكوناته ومناطقه وتعدد ثقافاته وأعراقه، وجدّدوا البيعة للأمير إدْريْس الْمَهْدِي السّنوُسي، ومنحوه حق التفاوض مع الحكومة الإنجليزيّة بشأن تكوين جيش مهمته المشاركة فِي تحرير ليبَيا.
وبعْد إعلان الاستقلال فِي الرَّابع والعشرين مِن ديسمبر 1951م كان قسم مهم مِن منتسبي هذا الجيش هم نواةَ تشكيل الجيش الِلّيبيّ، والّذِي تمّ إنشاؤه رسميّاً فِي التاسع مِن أغسطس 1952م، وقد تميز جيشنا عَن باقي جيوش العالم بأن نواته تشكلت قبل إنشاء الدولة أيَّ إرادة الأمـّة هي الّتي كانت وراء تأسيسه ولم تكن إرادة الدولة وراء ذلك، تماماً مثلما كان دستورنا الذي صادرته فئة باغية من بعض ضباط الجيش حالة خاصّة كونه صدر قبل إعلان الاستقلال المجيد.
أسس الآباء جيشنا المغوارالبطل، على عقيدةٍ سليمةٍ وأسسٍ علميّةٍ صحيحةٍ، فكان حبّ الوطن بوصلته، وقد عاش منتسبوه معنى الانتماء إِلى الأرض فقدم أنفس عزيزة قرباناً للتَّحـرير وذَّوداً عَن حِيَاضِ الوطن.
اراد الأولين أن يكون جيش الدولة الوليدة لكل الِلّيبيّين مِن عرب وأمازيغ وطوارق وتبو وغيرهم، وجامعاً لكُلِّ هذه المكونات، ولذا رفض أولئك الرجال الغُرّ الميامين، إضافة صفة (العربيّة) على القوَّات المُسلحة الِلّيبيّة، ورفضوا أن تكون مضافة إِلى اسم الدولة. كذلك، أرادوا أن يكون هذا الجيش ركناً سيادياَ مِن أركان الدولة الدّيمقراطيّة الملكيّة الدّستوريّة، وليس أداة بيد السّلطة الحاكمة، وألاّ يتدخّل بتاتاً فِي الحيَاة السّياسيّة لأن الجيش الّذِي يقوم بأدوار سياسيّة هُو جيش غير محترف بِالضرورةِ، وأن يمارس مهامه وفق مَا هُو منصوص عليه فِي الدستور. وقد حدد الدستور فِي المادتين (68 و 69)، دور الجيش ومهمته، ووضع قرار إعلان الحرب والسلم بيد المَلِك بصفته القائد الأعلى للقوَّات المُسلحة، فنصّت المادة (68) على أن ” المَلِك هُو القائد الأعلى لجميع القوَّات المُسلحة فِي المملكة الِلّيبيّة، ومهمتها حمايّة سيادة البلاد وسلامة أراضيها وأمنها، وتشتمل الجيش وقوَّات الأمن. وتناولت المادة (69) مسألة الحرب وعقد الصلح وإبرام المعاهدات، فنصت: “يعلن المَلِك الحرب ويعقد الصلح ويبرم المعاهدات ويصدق عليها بعْد موافقة مجلس الأمّة.”
والحق الَّذِي لا مِرَاء فِيه، كان لجيشنا الباسل الأبي، طوال فترة الشّرعيّة الدّستوريّة وزمن الآباء المؤسسين، ثوابته وأعرافه وتقاليده، وقد حافظ جيش المملكة الِلّيبيّة المتَّحدة ثمّ المملكة الِلّيبيّة، على مسافة بينه وبين السّياسة، وعلي الطابع المدني لنظام الحكم، كذلك أمن البلاد الدّاخلي وأمنها الخارِجِي ملتزماً بمهمته الأساسيّة المحددة فِي صون الوحدة الوطنيّة وحمايّة سيادة البلاد وسلامة أراضيها وأمنها.
وإذ نُذكّر بما نشأ عليه جيشنا البطل، ونشيد بدوره الوطنيّ الرَّيادي فاننا نؤكد على ضرورة إعادة تأسيسه على الأسس الّتي قام عليها فِي الأساس، وإنني على ثقة من أن ليبَيا الجديدة ستسير على نهج الأجداد الصالحين وستتبنى مجدَّداً سياسة التسامح والتعايش والمصالحة الوطنيّة، وستردّ الاعتبار لكُلّ الّذِين ظلموا، وستعيد الاعتبار كاملاً غير منقوص، لجيشنا الِلّيبيّ، وأن ليبَيا الجديدة ستكون دولة ديمقراطيّة مزدهرة، تكفل جميع الحُقُوق والحريّات لمواطنيها.
أيها الشّعب الِلّيبيّ الكريم
ونحن نقف اليوم لإحياء ذكرى تأسيس الجيش، نثبت أن رجال جيشنا الباسل فِي زمن حرب التَّحرير وزمن الشّرعيّة الدّستوريّة عانقوا بهاماتهم الشامخة قمم المجد، وسطروا فِي سفر التاريخ صفحات مُشرقة تقود الأجيال إِلى درب البطولة والتضحيّة والفداء ليسيروا عليها بخطى واثقة نحو الانتصار والحفاظ على الاستقلال والدولة المدنية وتحقيق التطلعات والآمال المنشودة. ونؤكد على أن الدول تؤسس أو يعاد بناؤها، على أسس التراكم والشّرعيّة، والدساتير فِي إقرارها أو تعديلها، تتطلب توافقاً مجتمعياً، لأنها وثائق توافقيّة فِي الأساس، فلا فائز فِي استفتاء على دستور أو فِي تعديل عليه.
ونؤكد أيْضاً على أن الإسْلام دين محبة وأخوة وتسامح، وأنه يؤمن بالتنوع والتعدد والتعايش السّلمي، ويرفض الانغلاق والتطرف والغلو الّذِي هُو ليس مِن الإسْلام فِي شيء. وأن المجتمع الِلّيبيّ ظل عبر تاريخه الطويل متحاباً مترابطاً متجانساً ومتآخياً مراعياً لأصول الاختلاف وآدابه وأحكامه، وأن تكفير الأشخاص أو المذاهب كالّذِي صدر مؤخراً، مرفوض ومستنكر ومستهجن ونعتبره شيئاً دخيلاً على مجتمعنا الِلّيبيّ وغريباً عليه.
وَفِي سياق متصل، نؤكد على رفضنا للإرهاب الفكري والّذِي يتمثل فِي سلب حق الآخر فِي التعبير عَن رأيه، ويحجر على العقول والحريّات، كذلك نؤكد على موقفنا الثابت فِي نبذ الإرهاب بجميع أشكاله وصوره، ومهما كانت دوافعه ومبرراته ومصدره وضرورة القضاء عليه وتجفيف مصادر تمويله.
أيها الشّعب الِلّيبيّ الكريم
تهل علينا ذكرى تأسيس الجيش فِي ظل تزايد الاهتمام الدّوليّ بما يدورفِي ليبَيا، وتسلم الدّكتور غسان سلامة مهام عمله كمبعوث جديد للأمم المتَّحدة إِلى ليبَيا، فِي شهر يوليو الماضي. وإذ نبارك للدّكتور غسان سلامة هذا التعيين وهذه الثقة الّتي منحه إياها المجتمع الدّوليّ، نتمنى له التوفيق فِي مهمته الّتي ليست بِالأمر السَّهل ولا الهَيِّن، وأن يساهم بفاعلية كبيرة فِي تحقيق استقرار ليبَيا الّتي طال نزيفها ومعاناة أبنائها. وندعوه إِلى تعزيزإيجابيّات الخمسة المبعوثين الّذِين سبقوه وتجنب أخطائهم، وأن يقتدي ويهتدي بتجربة أوَّل مبعوث أممي لليبَيا فِي تاريخها، تجربة الدّبلوماسي الهولندي والمبعوث الأممي إِلى ليبَيا،السّيِّد إدريان بلّت، الّذِي نجح فِي مهمته باقتدار وتمكّن مِن تحقيق قرار الأمم المتَّحدة الخاصّ باستقلال ليبَيا قبل الموعد الّذِي حددته، وأن يتذكر أن ليبَيا هي الابن البكر لمُنظمة الأمم المتَّحدة، حيث إنّها أوَّل دولة تصدر الأمم المتَّحدة قراراً بشأن استقلالها، وتعمل بجد مِن أجل تنفيذه وينفذ قبل الموعد الأقصى الّذِي حددته.
ونؤكد ونحن نعيش هذه الذّكرى المباركة، على أن مَا نعيشه اليوم مِن فرقة وقتال وتطرف وانقسام سياسي واعتداء على مصدر قوت النَّاس ونهب الأموال العامّة وتعطيل مشروع بناء الدولة، مَا هُو إلا نتاج صراعات داخليّة مدمرة، وتدخلات خارِجِيّة متباينة الأجندات ومتقاطعة المصالح والأهداف والتطلعات.. ونتاج تراكمات النظام السابق. ونؤكد أيْضاً على أن استمرار هذا الوضع المأساوي ينذربوقوع الكارثة وعظائم الأمور، ولذا لابُدَّ أن يتنازل بعضنا لبعض ونحتكم جميعاً إِلى لغة العقل والمنطق والحوار وتحقيق الصَالح العام، وأن نحترم تنوعنا وتعدد ثقافاتنا ونعتبر ذلك مصدرَ غنى وإثراءً وليس مبعثَ تنازعٍ وتناحرٍ أو تكفيرِ بعضنا البعض. وقد حاول السّيِّد إدْريْس السّنُوسي ترسيخ هذه القيمـة فِي نفوس الِلّيبيّين واتخاذها منهجاً فِي حياتهم منذ توليه لقيادة حركة التَّحرير فِي العَام 1916م حيث دأب على مخاطبة الِلّيبيّين – أميراً ثمّ ملكاً – بالأمّـة الِلّيبيّة انطلاقاً مِن قناعته الرَّاسخة أن ليبَيا أمّة تتشكل مِن أعراق مختلفة وثقافات متعددة، ومِن مسلمين وأقلية يهوديّة، وأكثر مِن مذهب ديني – مالكي وإباضي.. واعترافاً منه بِالتنوع والتعددِ والّذِي يعتبره مصدر غنى وثراءً وضماناً مِن ضمانات تطبيق القانون وكفالة الحُقُوق والحريّات وبالتالي يمنع كُلُّ مَنْ يَطْمَعْ فِي استعباد الِلّيبيّين والاستبداد بشؤونهم.
وَفِي نهايّة هذا السّياق لابُدَّ أن نُذكّر بما قاله – وفِي وقت مبكر جدَّاً – أبانا المؤسس المَلِك إدْريْس – طيب الله ثراه– أنه..”.. مِن حق كلّ شعب أن يسيطر على شؤونه، والنَّاس منذ نشأوا أحرار. وقد أظهر الِلّيبيّون في كلّ أدوارهم مقدار محبتهم للحريّة فدفعوا مهوراً غاليّة، فلا يصح لأحد أن يطمع في استعبادهم والاستبداد بشؤونهم. ”
وأخيراً، إننا واثقون بعون الله بأن المُسْتقبل القريب العاجل هُو لليبَيا الجديدة، ليبَيا الواحدة الموحدة، الناهضة الآمنة المستقرة كمَا أرادها وأسسها الآباء المؤسسون.. وأن الِلّيبيّين سوف يلتفون قريباً حول مَا يلم شملهم ويوحد صفهم ويعيد أمجادَهَم ومفاخرَهَم وماضيهم العريق.
رحم الله شهداء الوطـن وجعلهم فِي عِلّيّين.
عاش أبناء جيشنا المخلصين الأوفياء لوطنهم فِي كافـة ربوع بلادنا الحبيبة.
محمّد الحسَن الرَّضا المَهْدِي السّنُوسي
9 أغسطس 2017م