بمناسبة الذّكرى السّادسة والسبعين لتأسيس (جيش التحرير)
الجيش الليبي

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسّلام على الصّادِق الأمين، سيدنا محَمّد وعلى آلـه وصحبه أجـمعيـن.
ايها الشعب الليبي الكريم
السّلام عـليكم ورحـمة الله وبـركـاتـه

يصادف اليوم الثلاثاء التاسع مِن أغسطس الذّكرى السّادسة والسبعين لتأسيس (جيش التحرير) الّذِي صدر قرار بتشكيله فِي التاسع مِن أغسطس 1940م. وبعْد إعلان الاستقلال فِي الرَّابع والعشرين مِن ديسمبر 1951م كان قسماً مهماً مِن منتسبي هذا الجيش هم نواة تشكيل الجيش الِلّيبيّ، والّذِي تمّ إنشاؤه رسميّاً فِي التاسع مِن أغسطس 1952م، ليحظى هذا التاريخ بذّكرى تأسيس جيش التَّحرير، ومن بعده بذّكرى تأسيس الجيش الِلّيبيّ.

إنَّ يوم التاسع مِن أغسطس يعيدنا إِلى أهم مرحلة مِن مراحل تاريخ بلادنا الحبيبة، يوم تلاحم عدد مِن زعماء البلاد نيابة عَن جميع سكّان بلادهم، وعددهم أربعون شخصيّة تمثل كل الطيف الِلّيبيّ، بكافة مكوناته وأبعاده، وعقدوا اجتماعاً مع الأمير إدْريْس الْمَهْدِي السّنوُسي فِي منفاه فِي مِصْر، وجدّدوا البيعة له، ومنحوه حق التفاوض مع الحكومة الإنجليزيّة بشأن تكوين جيش مهمته المشاركة فِي تحرير ليبَيا.

تشكّل هذا الجيش بعْد هذا التاريخ مباشرة، واتخذ مِن منطقة (أبو رواش) مكاناً للتدريب، وكان مِن أوائل مَا اتخذ مِن ترتيبات هُو ضرورة إصدار الأوامر إِلى قطاعات الجيش باسم القيادة السّياسيّة بصفتها القائد الأعلى للجيش، والمتمثلة فِي شخص الأمير إدْريْس السّنوُسي، كمَا اتخذ الجيش راية قتاليّة له مستقلة عَن بقية تشكيلات الجيش البريطاني الثامن. لقد أظهرت قوَّات هذا جيش شجاعة نادرة، ومقدرة فائقة على التحمل واستيعاب الظروف الجغرافيّة والمناخيّة الصعبة، وخاضت معارك ضَارِيَةً، منذ معركتها الأولى فِي سيّدي البرّاني فِي نوفمبر 1940م إِلى آخر معاركها الّتي توجت بدحر قوَّات المستعمر وخروجها مِن كامل التراب الِلّيبي.

وقد ساهمت هذه القوَّات فِي معظم مراحل القتال تحت رايتها المستقلة إِلى جانب قوَّات الحلفاء ثمّ اندفعت وراء فلول الإيطاليين والألمان المنسحبة حتَّى دخلت برقة ثمّ طرابلس التي تحررت فِي يناير 1943م. وبعد طرد المستعمر مِن البلاد، تكوّن مِن هذه القوَّات نواة لقوَّة دفاع برقة والقوَّة المتحركة المركزيّة بطرابلس ونواة الجيش الِلّيبيّ الجديد. ايها الشعب الليبي الكريم وكمَا كان دستور ليبَيا حالة خاصّة كونه صدر قبل إنشاء الدولة، فإن الجيش اللّيبيّ يمثل تلك الحالة تماماً كونه تأسس قبل تحرير البلاد وإعلان استقلالها. وإذا كانت إرادة الأمّـة هي الّتي صنعت دستور بـلادنا الغاليّـة فإنَّ جيشنا البطـل صنعته نفس الإرادة كذلك، علاوة على أنه نشأ عمليّاً فِي ظلّ تطبيق مهمة مِن أعظم مهام أيَّ جيش فِي العالم ألا وهي الذود عَن حياض الوطن وترابه.

وإذا نقف اليوم إجلالاً واحتراماً لكلِّ الشهداء والجرحى وكافة رجالات هذا الجيش المغوار الّذِين كان لهم شرف المُساهمة فِي تحرير الوطن وإنقاذه من المستعمر، والجيش الّذِي أولت المملكة الليبية اهتماماً خاصّاَ به، وكرَّمت رجاله بالقلائد والأوسمة والأنواط والنياشين والميداليّات العسكريّة، نشير إِلى أن جيشنا قد تعرض فِي عهد الانقلابيين لمسلسل تخريب ممنهج، وتدمير لبنيته، وإفساد لنظمه وانضباطه, ثم زج ذلك الانقلابي بضباطه وجنوده فِي معارك عبثيّة،لا ناقة ولاجمل لهم فيها. وإذ نحن نحيى هذه الذّكرى المجيدة، لا نريد الخوض فِي المشاكل والمعوقات الّتي تعرقل إعادة بناء مؤسسات الدولة الّتي غيّبها عقوداً نظام سبتمبر، ولا الوقوف عند الخلافات والصّراعات الّتي دبت بين الِلّيبيّين ووصلت إِلى حد الانقسام السّياسي والفرقة ورفع السلاح والقتال وسفك الدماء، وأدَّت إِلى الاعتداء على مصدر قوت النَّاس ونهب الأموال العامّة وتعطيل مشروع بناء الدولة. ولكن نريد أن نستلهم الكثير مِن العبر والدروس مِن تجارب الماضي، ونستفيد مِن دروس التاريخ، ، ومَن لا يتعلم مِن التاريخ ولا يستفيد مِن دروسه لا يمكن أن يتغلب على محنته ويتجاوز أزمته أو ينجز الأعمال الكبيرة وبالتالي لا يمكن له بتاتاً أن يقود النَّاس وحركة التاريخ إِلى الأهداف الوطنيّة المنشودة.

ولا عجب أن يشعر الِلّيبيّون اليوم بعدما وصل سوء حالهم إِلى أقصى درجاته، بافتقادهم للمَلِك إدْريْس والرجال الّذِين جاهدوا تحت إمرته ثمّ أسسوا الدولة معه.. والّذِين حققوا فِي وقت قياسي مَا لم يتوقع إنجازه أحد ولا أحد غيرهم استوثق مِن تحقيقه كمَا استوثقوا هم وتثبتوا.

ايها الشعب الليبي الكريم
ونحن نقف اليوم لإحياء ذكرى تأسيس الجيش، لابُدَّ مِن ذكر أولئك الرجال مِن أبناء قواتنا المُسلحة وضبّاط وجنود الأمن العام وجهاز الشرطة، الّذِين وقفوا ضدَّ الانقلاب مدافعين عَن الشّرعيّة فِي الأوَّل مِن سبتمبر 1969م، بمجرّد إعلامهم بالتحرَّك المشبوه لبعض الضبّاط الصغار بمشارف مدينة طرابلس. وعلى رأس أولئك الشرفاء والضُبَّاط الّذِين لم يحنثوا اليمين، ولم يخونوا الامانة الزعيم علي عقيل (نائب مدير قوَّة الأمن العامّ للمحافظات الغربيّة) الّذِي تواجد خلال دقائق بمكتبه برئاسة الشّرطة بشارع سيّدي عيسى بطرابلس، ليلة انقلاب الأوَّل مِن سبتمبر، وعلى الفور أصدر الأوامر لاستنفار جميع مراكز الشرطة، كذلك توجيه قوَّة لحمايّة الأمير الحسن الرَّضا ولي العهد، ومبنى الإذاعة والبريد. وقد قاوم الزعيم عقيل – رحمه الله – الانقلابيين بكل شجاعة إِلى أن نفدت ذخيرته، فتمّ القبض عليه وإيداعه السجن، وقضى فِي المعتقل سنوات طوالاً.

ولابُدَّ أن نذكر هُنا أو نؤكد على أن جيشنا البطل منذ يوم تأسيسه إِلى شهر سبتمبر 1969 م لم يتدخل فيما يتعلق بالأوضاع السّياسيّة الداخليّة، وظل دوره مقتصراً على حمايّة الوطن والدّفاع عَن سيادته واستقلاله ووحدته الوطنيّة، ملتزماً بنص المادة (68) مِن دستور البلاد الّتي تحدد مهمته فِي حمايّة سيادة البلاد وسلامة أراضيها وأمنها. وأن المؤسسة العسكريّة طيلة السنوات المذكورة، لم تتعامل مع أفرادها على أسس القبليّة أو الجهويّة أو المناطقيّة، وقد ضمّت بين صفوفها أفراداً مِن مختلف القبائل والجهات والمناطق والمدن الِلّيبيّة دون أن تميل إِلى جهة أو منطقة دون غيرها، أو تتحيز لأي جهة أو طرف مِن الأطراف، وكانت التراتبية العسكريّة والتـأهيل العلمي هُو الأسس فِي التكليفات. ايها الشعب الليبي الكريم

لا شكّ أن الانقسام السّياسي الّذِي نعيشه والقتال الدّائر فِي البلاد، سيكون له نتائج وخيمة مَا لم يتوقف فوراً ونحتكم جميعاً للغة العقل والحوار والمنطق، ونحترم اتفاقاتنا ونلتزم بالعهود الّتي قطعناها على أنفسنا، فإني أحذركم من مغبة الاستمرار فِي هذا الطريق المظلم، وأوصيكم باجتناب كل مَا يعمق الخلاف ويزيد الشقاق، وليكن رائدنا الإخلاص لديننا ووطننا وشعبنا، وأسال الله أن يعيد علينا هذه الذّكرى المجيدة بوحدة الصّف والتئام الجرح وتحقيق أمن البلاد واستقرارها وازدهارها ورفاهية أبناء شعبنا الصابر الأبيّ.

وتذكروا دائماً مَا أوصاكم به أبانا المؤسس المَلِك إدْريْس –طيب الله ثراه– بالابتعاد عَن الغرور والتحاسد والتباغض والتسرع فِي الأمور فإنَّ فِي ذلك مجلبةً للأضرار وضياعاً للمصالح العامّة. وعليكم بالجد والاجتهاد فِي العمل، والصبر على المكاره، والتآخي والإخلاص، وتذكروا دائماً بأنكم أبناء وطن واحد يظلكم عملكم الوطنيّ، وإن للوطن عليكم حقاً أن تكونوا أبناءه البررة.

محمد الحسن الرضا المهدي السنوسي
الثلاثاء 6 ذو العقدة 1437 هجري
الموافق 9 أغسطس 2016م