بيان الامير محمد الحسن الرضا المهدي السنوسي
الى الأمة الليبية
بمناسبة ذّكرى تأسيس الجيش الليبي

يصادف اليوم التاسع من أغسطس عيد تأسيس الجيش الِلّيبيّ سنة 1952م، كمَا يصادف ذكرى تأسيس جيش التَّحـرير سنة 1940م. فِي مثل هذا اليوم منذ تسعة وسبعين عاماً تأسست قوَّات لّيبيّة فِي المنفى عُرفت بـ«جيش التَّحرير»، شاركت فِي الحرب العالميّة الثانيّة إِلى جانب «قوَّات الحلفاء» بهدف تحرير البلاد من المستعمر الإيطالي وتحقيق الاستقلال. تحررت الأرض وأعلن المَلِك إدْريْس السّنُوسي مِن شرفة قصـر المنار فِي مدينة بّنْغازي يوم 24 ديسمبر 1951م استقلال البلاد وتحريرها، وأن ليبَيا أصبحت منذ ذلك اليوم دولة مستقلة ذات سيادة، وأنّه سيمارس سلطاته وفقاً لأحكام الدستور.

وبعْد فترة وجيزة مِن إعلان الاستقلال، احتفل رسمياً بتأسيس «الجيش الِلّيبيّ» فِي 9 أغسطس 1952م، معتمداً على النواة الأولى الّتي تشكلت فِي المنفى بِمِصْر، فِي 9 أغسطس 1940م.
تأسست النواة الأولى للجيش الِلّيبيّ قبل إنشاء الدولة، وجاء تأسيسها لتحرير الوطن مِن المستعمر، ولحمايّة أمنه وحدوده من العدوان الخارِجِي، وترسيخاً لمبدأ خضوع القوَّات العسكريّة للسيادة المدنية.

وبِالإضافة إِلى هذه الخصوصيّة تفردت بلادنا العزيزة بشيء آخر عَن غيرها مِن البلدان، ألا وهُو «صدور الدستور قبل إنشاء الدولة»، حيث صدر الدستور فِي السّابع مِن أكتوبر 1951م والاستقلال تمَّ الإعلان عنه فِي الرَّابع والعشرين مِن ديسمبر مِن نفس العَام. وقد قامت الدولة في بلادنا العزيزة على مبدأ المشروعيّة وسيادة القانون والدستور، وكانت ليبَيا في عهد المملكة تحتفل سنوياً بذكرى إصدار الدستور، وتعتبر يوم صدوره عطلة رسميّة بموجب نص المادة «5» مِن قانون العطلات الرّسميّة لسنة 1953م، وبذلك تكون ليبَيا الدولة الوحيد فِي العالم الّتي تحتفل بيوم إصدار دستورها، وتعتبره عطلة رسميّة. وقد حدد القانون أيّام العطلات الرّسميّة فِي خمس مناسبات دينيّة وأربع وطنيّة، وكان يوم تأسيس الجيش في التاسع من أغسطس عطلة رسميّة كذلك إِلى جانب يوم الدستور فِي السّابع مِن أكتوبر، ويوم قرار الأمم المتَّحـدة باستقلال ليبَيا فِي الحادي والعشرين مِن نوفمبر، ويوم الاستقلال في الرَّابع والعشرين مِن ديسمبر.

الدستور والجيش اللذان قامت عليهما دولة ليبَيا الحديثة، كانا أولى ضحايا الانقلاب على السّلطة الّذِي تمَّ فِي الأوَّل مِن سبتمبر مِن العَام 1969م. ألغى الانقلابيّون «الدستور» فور استيلائهم على السّلطة، وتمَّ حل «الجيش» بعْد سنوات من عمر الانقلاب، وتحول إِلى كتائب أمنية تحمي السّلطة القائمة.

وقبل أن يعبث الانقلاب بالجيش، فتح جيشنا ذراعيه لجميع الِلّيبيّين بتعدّد أعراقهم وعلى اختلاف مكوناتهم الاجتماعيّة والثقافيّة واللغويّة، واكتفـى أن يُسمّى «الجيش الِلّيبيّ»، حفاظاً على وحدة البلاد وتماسك نسيجها الاجتماعي، واعترافاً بالتعدد والتنوع، واحتراماَ لمكونات المجتمع الِلّيبيّ الأخرى ذات الأصول غير العربيّة كالأمازيغ والطوارق والتبو وغيرهم. وتمَّ تطبيق نفس المبدأ على اسم الدولة، حيث سُمّيت الدولة بـ«المملكة الِلّيبيّة المتَّحدة» أولاً، ثمّ «المملكة الِلّيبيّة» بعْد إلغاء النَّظام الفيدرالي فِي العَام 1963م.

تأسس الجيش الِلّيبيّ بحيث يكون ولاؤه لله ثمَّ للوطن بعيداً عَن أي انتماءات جهويّة أو مناطقيّة أو حزبيّة، ويكون ملكاَ لكل المواطنين ولا ينحاز لطائفة دون غيرها، أو يعقد تحالفاً مع جماعة دون سواها مِن أبناء الشّعب. وتأسس على عقيدة ألا يتدخل فِي السّياسة، وأن مهمته الأساسيّة حمايّة الدولة مِن الاعتداء الخارِجِي والمحافظة على حدودها البريّة ومياهها الإقليميّة ومجالها الجوي. وأن المسؤوليّة النهائيّة فِي صنع قرار الحرب والسلم، وقرارات الأمن القومي في يد القيادة السّياسيّة المدنيّة، وليست فِي يد المؤسسة العسكريّة، وأن القائد الأعلى للقوَّات المُسلحة هُو المَلِك طبقاً لنص المادة (68) والمادة (69) من الدستور الِلّيبيّ، وقد جاء فِي الأولى: «المَلِك هُو القائد الأعلى لجميع القوَّات المُسلحة فِي المملكة الِلّيبيّة، ومهمتها حمايّة سيادة البلاد وسلامة أراضيها وأمنها، وتشتمل الجيش وقوَّات الأمن». وجاء في المادة (69): «يعلن المَلِك الحرب ويعقد الصلح ويبرم المعاهدات ويصدق عليها بعْد موافقة مجلس الأمّة».
ونالت هذه القوَّات اهتماماً كبيراً فِي عهد المملكة، وحظيت بمكانة وتقدير كبيرين، وألبس المَلِك التاج فوق رؤوس قواته من الجيش والأمن والشرطة، اعتزازاً بمكانتها وتقديراً لها وتثميناً لدورها الكبير فِي حمايّة الوطن ومقدراته.

حقاً، لقد كانت بلادنا العزيزة خلال فترة الاحتكام إِلى دستور 1951م آمنة مطمئنة تسير بخطى ثابتة نحو التقدم والتنميّة والإعمار، وحققت من الإنجازات العظيمة – وفي فترة زمنيّة قياسيّة – مَا عجزت عَن تحقيقه بلدان المنطقة كافة. وكان جيشها يسير على المسار الصحيح، وقد ﺑُني على أسس وقواعد سليمة مِن الحرفيّة والمهنيّة، ولأجل أن يكون جيشاً وطنياً لا يعاني مِن مشاكل الجهويّة والقبلية والقوميّة، وقد حقق نجاحات مهمّة ووضع قدميه على الطريق الصحيح، قبل أن يغير الانقلاب المعادلة.

أخيراً، إننا واثقون مِن أن مؤسسة الجيش العريقة ستعود حتماً إِلى المسار والأسس الّتي قامت عليها، وعلى النحـو الّذِي أراده الآباء المؤسسون.. وأن الِلّيبيّين لن يرضوا إلاّ بحكومة مدنية وحكم مدني ديمقراطي، وسوف يرتفع صوتهم حتماً ضدَّ التدخلات الخارِجِيّة السلبيّة، وتجتمع كلمتهم ضدَّ الاقتتال بين أبناء الوطن الواحد، وضدَّ محاولات شقَّ الصفِّ وتعزيز حالة الانقسام . ولا شكّ أنهم سيجلسون قريباً على طاولة التفاوض والحوار ليوحدوا صفهم، وينهوا خلافاتِهم وأزمة بلادهم الّتي طالت طويلاً، ويعيدوا أمجادَ أجدادهم وآبائهم المؤسسين، ومفاخر ماضيهم العريق.

ولا يفوتُنا هُنا أن نغتنم هذه المناسبة العزيزة على قلوبنا جميعاً، لنؤكد أن المصالحة والتسامح والعفو هي أساس بناء الدول، وليست الأحقاد والكراهية والانتقام والثأرات بين الأشخاص والقبائل والمناطق المختلفة، ولنا فِي تجربتنا الِلّيبيّة العبرة والعظة، والدرس المستفاد. يوم حرَّر آباؤنا المؤسسون الميثاق الّذِي عُرف بـ«ميثاق الحرابي» بدعوة من الأمير إدْريْس السّنُوسي، عقب نهاية الحرب العالميّة الثانيّة، وطرد المستعمر الإيطالي مِن ليبَيا وانتصار جيش التَّحـرير وقوَّات الحلفاء على قوَّات المحور، ليبدأ مشروع بناء الدولة بالدعوة إِلى التسامح والتصالح ونبذ العنف والثأرات، وإخماد نار الفتنة وتغليب لغة العقل والتفاهم قدر الاستطاعة.

ولنؤكد أيْضاً أن محاربة الإرهاب هي حرب بلا هوادة لحمايّة حُقُوق الإنْسَان، فليس هُناك حربٌ على الإرهاب إذا مَا انتهكت حُقُوق الإنْسَان، ولكن إذا مَا حميت تلك الحُقُوق وتمَّ التمسك بها، فإنّنا نعالج الأسباب الجذريّة للإرهاب.
وختاماً، إن وطننا العزيز للجميـع، ويسع الجميع، ومَا علينا إلاّ أن نحافظ عليه واحداً موحداً، ونرفض الاقتتال ونجلس على طاولة الحوار الوطنيّ، ونلتفت إِلى الحاضر وننظر إِلى المُسْتقبل، عابرين المرحلة القادمة بشعار «حتحات على ما فات»، الّذِي رفعه الآباء المؤسسون بعْد انتهاء الحرب. وأن نتذكر دائماً مَا أوصانا به الأب المؤسس لدولة ليبَيا الحديثة، قائلاً: «تذكروا دائماً بأنكم أبناء وطن واحد يظلكم عملكم الوطنيّ، وإنَّ للوطن عليكم حقاً أن تكونوا أبناءه البررة».

محمد الحسن الرضا المهدي السنوسي
9 اغسطس 2019