كلمة الأمير محمد الحسن الرضا المهدي السنوسي
إلى الأمَّةِ الليبية
بمناسبة الذكرى الخامسة والستين
لاستقلال ليبيا
بسم الله الرحمن الرحمن الرحيم،
والصلاةُ والسلامُ على سيدنا محمّدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أيها الشَّعبُ الليبيُّ الكريم،
السلام عليكم و رحمة الله وبركاته،
تمرُّ علينا اليوم أعزُّ ذكرى في التاريخِ الحديثِ لوطنِنا العزيز، وهي ذكرى إعلانِ الاستقلالِ المجيد. ففي مثلِ هذا اليوم الرابعِ والعشرين من ديسمبر عام ١٩٥١، ومن شرفةِ قصرِ المنارِ العامر في مدينةِ بنغازي المجاهدة، أعلنَ الملكُ الصالح محمد إدريس المهدي السنوسي طيب اللهُ ثراه، أنَّ بلادَنا ليبيا العزيزة، أصبحت منذُ ذلك اليوم دولةً مستقلةً ذاتَ سيادة. طبقا لقرار الجمعيةِ العامةِ للأممِ المتحدة الصادرِ يومَ ٢١ نوفمبر عام ١٩٤٩، وطبقاً لأحكامِ الدستورِ الليبي، الذي أقرتهُ وأصدرتهُ الجمعيةُ الوطنيةُ التأسيسية الممثلةُ لأقاليمِ ليبيا الثلاثة: برقة وطرابلس وفزان. في اليوم السابع من أكتوبر عام ١٩٥١ وكانت تلك هي المرةُ الأولى، التي تصبحُ فيها ليبيا بحدودها الحالية، دولةً مستقلةً ذاتَ سيادة. إذْ كانت قبلَ ذلك وعبر تاريخِها كلِّه،إمّا خاضعةً للاحتلالِ الأجنبي،أو كانت ولايةً من ولاياتِ أنظمةِ الحكمِ العديدة، التي كانت تديرُ شؤونَ الوطنِ الليبي. ومن هنا جاءتُ القيمةُ التاريخيةُ لهذا اليومِ العظيم وأهميّتُهُ بالنسبةِ للشعبِ الليبيِ الكريم.
لم يكنِ الكثيرونِ يتوقعون أن يصلَ الليبيونَ والليبيات،إلى تحقيقِ استقلالِهِمْ في تلك الاجواءِ المحليةِ والدولية البالغةِ التعقيد، وفي ظلِّ الظروفِ الاقتصاديةِ السيئة التي عاشها الشعبُ الليبيُّ في ظلِّ الفقرِ والحرمان عقب الحربِ العالميةِ الثانية، وقلةِ مواردِ الدولة او انعدامِها،ولكن الشعبَ الليبيَّ الصابر، والذي كان يعرفُ جيدًا كيفَ تُبنَى الأوطان، والذي التفَّ حول قيادةٍ حكيمة، كان في الموعدِ مع ذلك الحدثِ التاريخيِّ الكبير. فكان ذلكَ مصدرَ فخرٍ لنا كشعبٍ لم يعرفِ الاستسلام، ولم يعرفِ اليأس. ولكنه شقَّ طريقهُ رغم كلِّ الصعاب، وحقَّقَ آمالَ شهدائِهِ الأبرار، في الحريةِ والكرامةِ والاستقلال.
لقد تعّرضَ تاريخُ الوطنِ للتزوير خلال سنواتِ الانقلابِ العسكري، وتمَّ إخفاءُ وطَمْسُ الكثيرِ من الحقائق، عبر الإعلامِ الكاذب، ومن خلالِ مناهجِ التعليمِ المزوّرَة في المدارسِ والجامعات، وتأميمِ الصحافةِ وتكميمِ الأفواه، زيادة علي تلقينِ المبادئِ الهدَّامةِ والأفكارِ الشاذة لتلاميذِ المدارسِ ولطلابِ الجامعات. وكان لكلِّ ذلكَ آثارهُ السلبيةُ على شبابنا، وما نراهُ اليومَ من مظاهرِ الانحرافِ في سلوكِ البعض،إلا إحدى نتائجِ كلِّ ذلكَ العبثِ بتراثِ الآباء والأجداد، والعبثِ بتاريخِ الوطنِ وبإنجازاتِ رجالٍ (صدقوا ما عاهدوا اللهَ عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا).
أيها الشعبُ الليبيُّ الكريم،
إن قائدَ المسيرة الملكَ الصالحَ محمد ادريس المهدي السنوسي طيب الله ثراه، وهو العليمُ بأسرارِ تلكَ المرحلة وبكافةِ الظروفِ التي مرتْ بالبلاد،أوصانا بالمحافظةِ على الاستقلال وقال حكمتهُ المشهورة :”المحافظةُ على الاستقلالِ أصعبُ من نيله”. ولكن أحداثًا جسامًا مرَّتْ بنا، حالتْ دونَ محافظتِنا على ذلكَ الاستقلال. وجاء الانقلابُ العسكري في الأولِ من سبتمبر عام ١٩٦٩، ليكرِّسَ ذلك. حيثُ قامتْ فئةٌ قليلةٌ من صغارِ ضباطِ الجيش بالسطوِ المسلحِ على السلطة، وقاموا بتعطيلِ الدستور، وهدمِ كلِّ ما بناهُ الآباءُ والأجداد وما حققوه من الإنجازاتِ على كافّةِ المستويات، كما هدَموا القيم النبيلة التي غرسها الآباءُ والأجدادُ في عقولِ الليبيين والليبيات، فخلفَ من بعدِ آباءِ الاستقلال خلْفٌ غريبٌ من الناس، الذين أضاعوا الصلاةَ واتبعوا الشهوات، فباؤوا بغضبٍ من الله، حتى أذنَ اللهُ بزوالِ دولته، في انتفاضةٍ شعبيةٍ عارمة، بدأتْ منتصفَ شهرِ فبراير عام ٢٠١١، في مدينةِ بنغازي الصامدة، وفي باقي المدنِ الليبية، وانتهت بانتصارِ الشعبِ الليبيِّ على الانقلابيينَ وزوالِ حكمِهِمْ.
غيرَ أنَّ التجربةَ المريرة، التي خُضناها بعدَ التحرير، وخلالَ السنواتِ الخمسِ التالية، تُحتّمُ علينا اليوم أن ننظرَ إلى الأسبابِ الحقيقية وراءَ ما نحنُ عليهِ الآن، من التشرذُمِ والخلافِ والقتالِ غيرِ المبرّر بين إخوةٍ في الوطنِ الواحد، تظلُّ مصلحتُهُمْ واحدة في العيشِ في أمنٍ وأمان، في ظلِّ الدستورِ والقانونِ والحكمِ الرشيد، ثمَّ معالجةِ تلكَ الأسباب، ومعرفةِ مكامنِ الخللِ فيها. وهذه مسؤوليتُنا جميعا، وهي تحتِّمُ علينا أن نسْتشعرَ ما يتعرّضُ له الوطنُ من المخاطر، وأن نعملَ جميعًا بكلِّ جِدٍّ وحزمٍ واخلاص، على صيانةِ هذا الوطن، والمحافظةِ على سيادتهِ ووحدتهِ واستقلاله، مُستلْهِمين في ذلكَ تراثَ الآباءِ والأجداد، وما قدّموهُ للوطنِ من التضحياتِ و إنكارِ الذات، وأن نسيرَ على خُطاهم، حتى نحققَ لبلادِنا وشعبِنا ما نصبُو إليه جميعا من الأمنِ والأمانِ والاستقرار.
أيها الشعبُ الليبيُّ الكريم،
إن مشاكلنا لن تُحلَّ إلا بأيدينا، ولن يكونَ غيرُنا أرحمَ بنا من أنفسِنا، ولن يكونَ أحرصَ منا على بلادِنا وسلامتِها، خصوصًا إذا كان هذا الغير تحكمهُ الأهواء، وتحركهُ مصالحهُ الخاصة، التي تختلفُ حتمًا عن مصالِحِنا وأهدافِنا. وعلى القِوى السياسيةِ في بلادِنا،ألاَّ ترتكبَ الأخطاءَ التي قد تُعرِّضُ أمنَ الوطنِ وسلامتَهُ للأخطار، عليها أن تتحملَ مسؤوليتَها الوطنية، كما تحمَّلَها الآباءُ المؤسسون الذين جنَّبوا بلادَنا الوقوعَ في الكوارثِ والأزمات، طِوالَ ثمانيةَ عشرَ عامًا بعد إعلانِ الاستقلالِ المجيد، تمتَّعَ خلالَها الوطنُ والمواطنون بالأمنِ والاستقرارِ، وتحققتْ خلالها العديدُ من خُططِ التنمية. ومن الإنجازاتِ الكبرى في مختلفِ المجالات، خصوصًا بعدَ البدءِ في تصديرِ النفطِ والغاز، بينَ عاميْ ١٩٦١ و ١٩٦٩.
لقد تابعتُ بأسفٍ وألمٍ شديديْن، التجربةَ المريرةَ التي خُضناها معًا طيلةَ العقودِ الماضية وما تلاها، بعد التغييرِ الذي حدثَ خلالَ السنواتِ الخمسِ الأخيرة. وعلينا أن نأخذَ من كِلتا المرحلتَيْنِ، كثيرًا من العبرِ والدروسِ التي تُعينُنا على معرفةِ الأسبابِ الحقيقية، لِما مرَّ بالوطنِ العزيز من الأحداثِ المؤسفةِ والكوارثِ المؤلمة التي أصابتْ كلَّ قريةٍ وكلَّ مدينةٍ في بلادنا العزيزة، وتركتْ أسوأَ الأثرِ في نفوسِنا جميعا. كما أن حجمَ المسؤوليةِ التي تقعُ على عاتِقِنا كمواطنين، تحتِّمُ علينا أن نتداركَ الخطرَ الذي يحيطُ بنا و بالوطن، وأن نتجنبَ ارتكابَ الأخطاءِ والأعمالِ غيرِ المشروعة، وأن نعلمَ أنَّ من واجبِنا أن نتكاثفَ جميعا للمحافظةِ على قيَمِنا الوطنيةِ والدينيةِ والأخلاقية، وعلى تراثِ الأجدادِ الذين حققوا لنا الاستقلال، وغرسوا فينا بذورَ الخيرِ والألفةِ وحبَّ الوطن، ولْيَكُنْ شعارُنا: ” لايؤمنُ أحدُكم حتَّى يحبَّ لأخيهِ ما يحبّ لنفسِه. ”
أيها الشعبُ الليبيُّ الكريم،
أعلمُ أنَّ هناكَ الكثيرَ من الأفكارِ التي يتمُّ تداولُها عبرِ وسائلِ الإعلامِ المختلفة، والتي تدعوا إلى إعادةِ العملِ بدستورِ الاستقلال المعدل، و العودةِ بالأمةِ الليبيةِ إلى أُصولِها الأُولى، وإلى النظامِ الملكيِ الدستوري الذي كان قائمًا غداةَ الانقلابِ العسكري
باعتبارهِ صمامَ الأمانِ وطوقَ النجاة، والضمانَ الأكيدَ لاستعادةِ الأمنِ والأمان والحكمِ البرلمانيِّ المسؤولِ الرشيد، القائمِ على احترامِ الدستورِ والقانون، وفصلِ السلطاتِ واحترامِ القضاء، وعلى التداوُلِ السلمي للسلطة، عبرَ الانتخاباتِ الحرةِ النزيهة، التي يُمكنُها أن تُفرزَ القياداتِ السياسيةِ الليبيةِ الواعية، من نوابٍ وشيوخٍ ووزراءَ وكبارِ المسؤولينَ في الدولة القادرينَ على حملِ الأمانةِ وصيانةِ استقلالِ الوطنِ وسيادته في ظلِّ نظامٍ ديموقراطيٍّ حرٍّ ونزيه، ودستورٍ يحمي حقوقَ الجميعِ ويحدِّدَ واجباتِهمْ.
وانطلاقًا من المبدإِ الذي أومنُ به، والذي أعلَنتُهُ في العديدِ من المناسبات،أقولُ لكمُ اليومَ مرةً أخرى: إنني على استعدادٍ دائمٍ لخدمةِ وطنِي وشعبي، متى طلبَ الشعبُ مني ذلك، فذلك شرفٌ أعتزُّ به، ولكنَّ ذلكَ لا يتمُّ إلا من خلالِ مشروعٍ وطني، توافقُ عليهِ الأمةُ الليبية التي هي وحدَها صاحبةُ الحقِّ في إقرار ذلك، ولابد أن تتجسدَ العودةُ إلى النظامِ الملكي في ميثاقٍ وطنيٍّ شامل يجلُبُ الاستقرارَ والطمأنينة، ويحققُ تطلعاتِ وطموحاتِ الشعبِ الليبي الذي عانى طويلا، وآنَ له أن يستريحَ وأن يضعَ الدعائمَ الصحيحةَ لمستقبلهِ ومستقبلِ أبنائه. ولا يفوتُنا في هذهِ المناسبةِ العظيمة، إلا أن نستمطرَ شآبيبَ الرحمةِ والرضوانِ على روحِ الأبِ المؤسس الملكِ الصالحِ محمد ادريس المهدي السنوسي طيب الله ثراه، وعلى أرواحِ الرجال العظامِ من أعوانهِ ورفاقه الذين انتقلوا إلى جوارِ ربِّهم، وعلى أرواحِ شهدائِنا الأبرار الذين قدَّموا الغاليَ و النفيس، من أجلِ أن تنعمَ بلادَنا العزيزةُ بالحريةِ والاستقلال.
حفِظَ اللهُ بلادَنا من كل سوء، ودمتم إخوتي وأخواتي الأعزاء في وُدٍّ وأمنٍ وأمان.
والسلام عليكم ورحمةُ اللهِ و بركاتُه.
محمد الحسن الرضا المهدي السنوسي.
24 ديسمبر 2016