نزع الراديكالية من السياسة الخارجية الغربية
اللورد سارفراز
على الرغم من إنفاق تريليونات الدولارات وفقد مئات الآلاف من الأرواح وعشرين عامًا من المشاركة، تركت السياسة الخارجية الغربية في الشرق الأوسط وراءها العديد من الدول الفاشلة. و توضح الصور المؤثرة التي تظهر من أفغانستان هذا الفشل في الصفحات الأولى اليوم، و لا تزال آثار الفشل السابق أيضا واضحة في كل من العراق وليبيا.
يرفض المحللون السياسيون اعتبار هذه الآثار على أنها نتيجة “حتمية” للصراعات العرقية والطائفية التي استمرت لقرون. حيث أنه في العقود الماضية، مرت هذه البلدان بفترات من الاستقرار والازدهار والوحدة الوطنية، تميزت بتقوية المجتمع المدني الذي يجسد القيم العالمية أو ما أصبحنا نسميه اليوم بالقيم “الديمقراطية”. فبدلاً من التساؤل عن الخطأ الذي حدث في العشرين عامًا الماضية، يجب أن يكون السؤال بدلاً من ذلك هو: ما الذي كان يحدث بشكل صحيح قبل تلك الفترة؟
فعندما كانت كل من العراق وليبيا و أفغانستان تعيش فترات ذهبية، لم يكن استثمار تريليونات الدولارات أو الالتزام العسكري الهائل هو الذي أحدث الفارق. بل كانت وصفة النجاح هي التركيز على تعزيز الروح الوطنية لكل بلد، وهو الشيء الذي سمح بتأسيس الأطر السياسية على الثقافة المحلية والتاريخ الوطني و المقدسات والأفكار المألوف. و في الحالات التي استمر فيها النجاح، فقد تم التوصل إلى حلول من خلال عمليات سياسية مألوفة، وكلها تستند على هوية أو قضية وطنية مميزة.
على الرغم أنها قد تكون حديثة العهد، إلا أن الهوية الوطنية كانت رغم ذلك بمثابة عامل توحيد حاسم في كل من هذه البلدان، حيث توحدت البلدان المنقسمة معًا على أساس ما هو قبلي و عرقي و طائفي و ديني وغيرها من الحدود الفاصلة. و كانت الهوية الوطنية القوية شرطًا ضروريًا لنجاح كل من هذه البلدان. و يوضح التاريخ الحديث لكل من أفغانستان وليبيا هذه النقطة.
إلى أن حدث الانقلاب المدعوم من الاتحاد السوفيتي في سنة 1973، حيث ترأس محمد ظاهر شاه الأفغاني دولة قومية فاعلة مبنية حول تاريخ البلد المميز وعاداته وقيمه المشتركة. و على الرغم من تاريخ طويل من الاقتتال القبلي، تمكن ظاهر شاه من إنشاء مؤسسات وطنية عززت الهوية الوطنية للبلاد، مما سمح للأفغان بالتعبير عن هوية وطنية إلى جانب هويتهم العرقية والقبلية والطائفية.
و بحلول أوائل الستينيات من القرن الماضي، كانت أفغانستان متماسكة بما فيه الكفاية لظاهر شاه لسن الإصلاحات الدستورية سنة 1964، والتي حولت أفغانستان إلى دولة ملكية دستورية. و تم إجراء الانتخابات البرلمانية في 1965 و 1969، بينما عملت الحكومات المتتالية تحت رئاسة الوزراء و الذين لم يكونوا من سلالة دوراني الحاكمة. كانت وتيرة الإصلاح بطيئة، لكن الديمقراطية الحديثة في أفغانستان كانت مجرد جزيرة استثنائية في منطقة تهيمن عليها الأنظمة الاستبدادية. و لم تستطع النجاة من الحرب الباردة، بحيث أنهى انقلاب مدعوم من الاتحاد السوفيتي سنة 1973 تجربة أفغانستان الديمقراطية التي استمرت عقدًا من الزمن. وبعدها بدأت الحرب السوفيتية سنة 1979 في أفغانستان، و القصة معروفة.
و في ليبيا، استخدمت أكثر من 140 قبيلة وثلاث مناطق مميزة تاريخيًا عملية البيعة التقليدية لتعلن الولاء للسيد إدريس السنوسي، و الذي كان زعيما دينيا وقائد للمقاومة ضد الاستعمار الإيطالي. و في ديسمبر 1951، أصبح إدريس السنوسي الملك الأول والوحيد للمملكة الليبية. و قدم الدستور الليبي لعام 1951 حريات سياسية واجتماعية شاملة، و التي لم يكن لها مثيل في أوروبا الغربية. في حين ضمنت المادة 11 سيادة القانون. و ضمنت المادة 21 حرية الضمير، و ضمنت المادة 23 حرية الصحافة. و تم انتخاب النظام البرلماني من خلال الاقتراع العام في وقت منعت فيه سويسرا والبرتغال النساء من التصويت.
كان إدريس فردا من أفراد العائلة السنوسية، وهي عائلة هاشمية قديمة وذات مذهب صوفي وقفت في وجه الصراع القبلي الليبي وكانت بمثابة نقطة محورية موحّدة لليبيا لأكثر من قرنين، بحيث اتضح ذلك خلال الحرب المستمرة منذ عقود ضد الاستعمار الإيطالي قبل الحرب العالمية الثانية. و لا يزال العديد من الليبيين يعتبرون السنوات بين 1951 و 1969 بمثابة “العصر الذهبي” في ليبيا، وإحدى الفرص قصيرة الأمد التي تم فيها تطوير فكرة تأسيس الدولة “الليبية”. و جسدت الهوية الوطنية الليبية المميزة القيم العالمية المبنية حول المؤسسات الوطنية الناشئة التي كانت متوافقة مع العادات الليبية وتاريخ ليبيا الفريد وسياقها القبلي.
لكن الأمر خرج عن مساره، و هذه المرة بسبب الايديولوجية الداعمة لوحدة الدول العربية في الخمسينيات والستينيات. حيث حاولت الوحدة العربية، الاشتراكية وذات الميول السوفيتية، صنع هوية عربية على حساب الهوية الوطنية. و في حين كانت الدول العربية لا تزال تحاول التعافي من جروحها، وقع الكثير منها تحت تأثير الأيدلوجيا الأكثر سحراً. و أتت هذه الحركة بمعمر القذافي إلى السلطة عام 1969. و تبقى، مرة أخرى، القصة معروفة.
في أفغانستان وليبيا و دول أخرى في المنطقة، كانت محاولات بناء أسس الهوية الوطنية هو ما جعل تلك الفترات ناجحة. إلا أن الغرب تجاهل بشكل صارخ أهمية هذا المكون لبناء الدولة، واختار بدلاً من ذلك تشكيل الدول على صورة الغرب. ولعل أبرز مثال على هذا الخطأ هو القرار الذي اتخذته الأمم المتحدة عام 2002 باستخدام حق النقض ضد محاولة اجتماع قبائل اللويا جيرغا الأفغانية لإعادة ظاهر شاه إلى العرش، مما يحرم السياسة الأفغانية من حكم مستقل محتمل. ويمكن للمرء أن يتساءل كيف يمكن أن تسير الأمور بشكل مختلف.
لقد دعم الغرب والمؤسسات المتأثرة بالغرب القادة السياسيين الغربيين، مما دفعهم لإجراء انتخابات على النمط الغربي من أجل تحقيق النماذج السياسية الغربية، و بالاعتماد على الأموال والأسلحة الغربية. مما يمكن اعتباره ب “الراديكالية الغربية”. وفي كل مرة، أدى ذلك إلى فشل ذريع. و كنتيجة لم يؤدي ذلك إلا للبؤس البشري على نطاق بشع وساهم أيضًا في انتصار الاستبداد على الحرية، وبالتالي التقليل من نفوذ وأمن الغرب.
و تبقى السمة المميزة للأيديولوجيا الراديكالية هي المطالبة بالحقيقة المطلقة. حتى في مواجهة الفشل والتكلفة الباهظة، يدعو الراديكاليون إلى المزيد من الحماس والمثابرة و إلى المزيد من الشيء نفسه. و قد لا يختلف الغربيون الراديكاليون، حيث يجادل البعض، مثل الشيوعيين المنكسرين، بأن الديمقراطية الليبرالية على النمط الغربي لم “تُنفذ بشكل صحيح”. ربما يتعين الاستشهاد هنا بمقولة ألبرت أينشتاين، “الجنون هو أن تفعل الشيء نفسه مرارًا وتكرارًا وتتوقع نتائج مختلفة.” و من المؤكد أنه ليس من السابق لأوانه التخلص من النزعة الغربية الراديكالية. و من الضروري إجراء إصلاح مدروس في الشرق الأوسط و الدول المجاورة للنقط الكامنة وراء صنع سياستنا الخارجية إذا أردنا تجنب العواقب ذات المدى القصير والطويل للفشل.
يبقى ” توحيد الهوية الوطنية” ضروري لتجاوز موجة الإخفاقات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. و يجب على الغرب أن يدعم عمليات بناء وإعادة بناء الدول من خلال قضية توحيد الهوية الوطنية. إنها الطريقة الوحيدة لضمان عدم احتواء الدول من قبل قوى خارجية. فالهوية الوطنية هي مصدر احترام الذات الذي يربط الناس ببعضهم البعض، مما يبعث إحساسًا بوجود هدف. إنه الأساس الجوهري للمصالحة الوطنية. إلا أنه إذا تم تجاوزها، يمكن أن تتحول إلى قومية خطيرة. لذا، فالهوية الوطنية هي عنصر أساسي لدولة فاعلة. و إذا تم تجاهلها، كما حدث بالفعل، فسيعود النظام السياسي إلى الانقسامات السياسية الأساسية، مما يؤدي إلى انهيار الدول تماما.
يجب على جيل كامل من صانعي القرارات ومؤسسات الدولة ومراكز الفكر و البحث، الذين تشبعوا بالراديكالية الغربية، استيعاب هذه الدروس. إنهم دائمًا ما يكونون أشخاصا انتهازيين، مروجون لأنفسهم يسعون إلى الحصول على مصروف الجيب الآن أو ملء حساباتهم المصرفية للغد، وهم يعبثون بينما بلدانهم تنقسم وتحترق. أما التشدق في الكلام الذي يظهرونه إلى رعاتهم الغربيين الراديكاليين ما هو إلا طريقك لقضاء مصالحهم.
والخطوة التالية هي التأمل فيما حدث على مر التاريخ، مع الأخذ بعين الاعتبار فترات الاستقرار الوطني والنجاح بعد التأريخ الذي كان نتيجة الحكام المستبدون. لا تزال مصادر الشرعية والسلطة السياسية مهمة. وهي تختلف بين الدول، كما هو الحال بالنسبة للعمليات المناسبة لتأسيس حكومة شرعية. و يقدم التاريخ أفضل تعليمات للنماذج المناسبة لمختلف البلدان، و التي تبقى حتما أفضل بكثير من التفاؤل المضلل.
لقد أحدثت الوحدة العربية الراديكالية والإسلاموية الراديكالية دمارًا رهيبًا بسبب عدم قدرتهما على التفكير ما وراء النظري. و ينطبق نفس الشيء على الغرب الراديكالي. إذا أرادت السياسة الخارجية الغربية أن تنجح على المدى الطويل، فلا بد من نزع الراديكالية. و يوفر توحيد “الهوية الوطنية”، كرؤية بديلة لسياسة تركز على التاريخ والوحدة الوطنية بدلاً من الإسقاط ونظريات المحاكاة اليائسة، فرصة للتغلب على هذا العائق النظامي.
اللورد سارفراز هو عضو محافظ في مجلس اللوردات وعضو في لجنة العلوم والتكنولوجيا