معضلة المرتزقة والحل الدستوري الليبي
مصطفى الصاقلي
مدير البرنامج الليبي لـإعادة الإدماج والتنمية (LPRD)
وفقا لتقديرات الأمم المتحدة، هناك ما مقداره عشرون ألف مرتزقة أجانب في ليبيا، ناهيك عن أولئك الذين ينتمون إلى جماعات مسلحة محلية المنشأ. وهذا عدد كبير في بلد يقل عدد سكانه عن سبعة ملايين نسمة.
لقد كان استخدام المرتزقة واسع النطاق لدرجة أن الدكتورة علياء الإبراهيمي، الخبيرة في المنطقة، أعربت عن قلقها من أنه بدون استجابة كافية من المجتمع الدولي ” ستتغير القاعدة فيما يتعلق بمكافحة المرتزقة وسيعاد تدريجيا تطبيق ممارسات القرن التاسع عشر” -أي عندما لم يكن استخدام المرتزقة عمل مرفوضٌ بشدة. ونادراً ما يشكل المرتزقة الأجانب قوة بناءة – لاحظ على سبيل المثال أنشطة المنتسبين إلى شركة بلاك ووتر في العراق.
ليس من المستغرب أن يكون للمرتزقة وقعٌ سيء للغاية في ليبيا أيضًا. اذ صرح جان كوبيش، المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى ليبيا منذ يناير/كانون الثاني، بأن المقاتلين والمرتزقة الأجانب يعززون الانقسام الحالي في ليبيا. لقد كان كوبيش محقًا ان لم يكن قد قلل من خطورة الوضع أيضاً.
يتركز التأثير الضار لمجموعات المرتزقة الأجنبية على جانبين متصلين. أولاً، إنها تقوض إمكانية قيام عملية يقودها الليبيون فيما يتعلق بمستقبل البلاد. يرجع هذا إلى حد كبير إلى حقيقة أن المرتزقة تعطي الأولوية للمصالح الأجنبية – سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو استراتيجية – والتي غالبًا ما تكون شائنة على حساب الليبيين العاديين. دائمًا ما يكون نشر مجموعات المرتزقة أمرًا سيئًا بالنسبة لتقدم الدولة التي تم نشرهم فيها ودولة العراق أكبر دليل على ذلك.
عام 2011 وما بعده
التدخل الأجنبي ليس بأي حال من الأحوال ظاهرة جديدة في ليبيا. ففي أعقاب الإطاحة بالقذافي، تم مساعدة المتمردين من قبل حلف شمال الأطلسي، وقطر، وفرنسا، ودعم الإمارات العربية المتحدة لـ “المجلس الوطني الانتقالي”. دامت الحكومة الفعلية لمدة عشرة أشهر بين عامي 2011 و2012؛ واعترفت قطر بأنها أرسلت المئات من القوات، الذين قدموا التدريب والدعم في مجال الاتصالات، لدعم المتمردين. وبدلاً من ” ضمان مستقبل أفضل لشعب ليبيا” كما زعم أوباما وكاميرون وساركوزي في عام 2011 ، لم يعمل التدخل الأجنبي إلا في دفع شعب ليبيا على تمزيق بلاده. وما دام وجودهم مستمراً، فإن فرص ليبيا في التقدم نحو السلام تقترب من الصفر.
منذ الإطاحة بالقذافي، اهتمت موسكو وأنقرة أيضًا بمعركة المستقبل – أو عدمه – في ليبيا، بالإضافة إلى قطر وفرنسا والإمارات ودول أخرى. تدعم روسيا خليفة حفتر المنشق البالغ من العمر 78 عامًا وما يسمى بالجيش الوطني الليبي، الذي يسيطر على شرق البلاد. من ناحية أخرى، لا تزال تركيا التي دعتها حكومة الوفاق الوطني لحماية طرابلس من هجوم حفتر العسكري تدعم حكومة الوحدة الوطنية المعترف بها دوليا، ومقرها طرابلس، شمال غرب العاصمة، والتي شكلها مجلس النواب في فبراير/شباط، وهو البرلمان الليبي المعترف به دوليا.
من بين 20,000 من المرتزقة الأجانب، هناك ما يقدر بـ 2,000 شخص من مجموعة فاغنر، وهي شركة عسكرية روسية خاصة ذات الصلة بيفغيني بريغوشين، وهو حليف بوتين الذي اتهمته الولايات المتحدة في قضية تتعلق بالمنتهزين الروس الذين سعوا للتأثير على انتخابات عام 2016. لا يزال يُزعم أن الإمارات العربية المتحدة تحول الأموال إلى فاغنر. ولفهم مدى شراسة مجموعة فاغنر والكيانات ذات الصلة، أفضل ما يمكن فعله هو مشاهدة الاتهامات الموجهة إلى المجموعة من قبل الأمم المتحدة فيما يتعلق بعملياتها في جمهورية أفريقيا الوسطى. إنها ليست محاولة موسكو أو أنقرة الأولى للدخول إلى المنطقة. اذ يتواجدون أيضا على الجانبين المتعارضين في سوريا القريبة، حيث يؤيد بوتن الأسد في حين يدعم أردوغان المعارضة لدكتاتور سوريا بشار الأسد ويوفر للملايين من اللاجئين السوريين الملاذ الآمن. هناك، ساعد دعم مجموعة فاغنر والقوات الروسية الأخرى الديكتاتور الدموي على الاحتفاظ بقبضته على السلطة على الرغم من الحرب الأهلية التي استمرت عشر سنوات والتي خلفت ما يقرب من 5.6 مليون لاجئ خارج البلاد و400 ألف قتيل.
العائق أمام السلام
أكد “مؤتمر برلين الثاني” الذي عُقد في 23 حزيران / يونيو وجهة نظر الأمم المتحدة بضرورة مغادرة القوات العسكرية الأجنبية والمرتزقة، ووصفت روزماري دي كارلو، وكيلة الأمين العام للشؤون السياسية وبناء السلام، المرتزقة الأجانب بأنهم “بلاء لا على ليبيا فحسب، بل على المنطقة دون الإقليمية برمتها”. وكانت دي كارلو محقة أيضاً كزميلها كوبيش.
الآن، بعد ما يقرب من عقد من الزمان على وفاة القذافي، يشكل الآلاف من المرتزقة الأجانب عقبة رئيسية أمام أي فكرة عن المصالحة أو خطوات نحو السلام في ليبيا. كما تدعم هذه الجماعات مصالح القوى الأجنبية – والجهات الفاعلة والكيانات الخاصة – على حساب الشعب الليبي الذي طالت معاناته. يمكن تلخيص معاناة الشعب الليبي بعبارة بسيطة: إنهم يعيشون في واحدة من أكثر الدول فسادًا وأقلها حرية والأكثر هشاشة على وجه الأرض.
في سبيل المضي قدماً
في الوقت الحاضر، من المرجح للغاية أن يؤدي استمرار وجود المرتزقة الأجانب إلى تقويض التقدم المحرز نحو الانتخابات المقرر إجراؤها في كانون الأول/ديسمبر.
إن العملية الانتخابية التي يشوبها العنف لن تؤدي إلا إلى توسيع الحلقة المفرغة لعدم الاستقرار في ليبيا. من أجل تحسين الوضع الأمني في ليبيا، يتعين القيام بعمليتين متوازيتان أساسيتان: أولاً، إصلاح قطاع الأمن من خلال إعادة بناء جيش جديد يمثل الشعب الليبي ولا يتدخل في السياسة والسعي ثانياً لتحقيق عملية موحدة لتحقيق الاستقرار السياسي.
ان أفضل بديل لمجموعة المرتزقة الأجانب وغيرهم من الجماعات المسلحة العاملة حاليا في ليبيا هو الجيش الليبي الموحد والكفؤ، وهو المشتت حاليا بين قاعدتي السلطة في ليبيا. وفيما يتعلق بالأخير، أصبح من الأفضل الآن – بعد عقد من الاقتتال الداخلي والمؤامرات – أن يخدم مصالح شعب ليبيا فرد موحد يستطيع على الأقل أن يبدأ في تضميد الجراح الوطنية.
بعد مؤتمر برلين الثاني، أعربت دي كارلو عن استعداد الأمم المتحدة لدعم “تنفيذ عملية قائمة على المصالحة والعدالة الانتقالية بقيادة الليبيين ولأجلهم وتضمن حقوقهم “. ينبغي أن تكون العملية بأيدي الليبيين وبقيادتهم. اذ كان أوباما، وكاميرون، وساركوزي محقين في عام 2011 في التأكيد على أن “شعب ليبيا، وليس الأمم المتحدة، هم الذين يختارون دستورهم الجديد، وينتخبون قادتهم الجدد، ويكتبون الفصل التالي في تاريخهم”.
دستور جديد (قديم) لليبيا
عندما يتعلق الأمر باختيار الفصل التالي، فقد اختار العديد من الليبيين بالفعل طريقاً واعداً إلى الأمام تتمثل باستعادة دستور عام 1951، وتدعم هذه الخطوة حركات شعبية حقيقية مثل “عودة الشرعية الدستورية”. كما يتقبل زعماء القبائل والسياسيون فكرة إعادة إقامة ملكية دستورية. ينص الدستور على نظام برلماني يقوم على الاقتراع العام للبالغين ويضمن حريات اجتماعية وسياسية واسعة النطاق، ومن المؤسف أنه استُبدل بـ “الكتاب الأخضر” الذي أصدره القذافي.
من المبشر أيضا أن هناك أدلة على دعمٍ رمزيٍ لاستعادة دستور عام 1951 والنظام السياسي الذي قدمه – أي حكومة تمثيلية وتكنوقراطية مع عاهلٍ وراثي. إن العودة إلى الدستور الذي ألغاه القذافي في عام 1969 تمثل الأمل لغالبية الليبيين الذين يسعون إلى العودة إلى دولة مدنية بقيادة المدنيين. لقد شهدت ليبيا أسوأ سنواتها تحت قيادة قادة عسكريين أمثال العقيد القذافي والجنرال حفتر مؤخراً. من جهة أخرى، تمتع النظام الملكي بدعم واسع – وهو إنجاز كبير في بلد مقسم إلى 140 قبيلة رئيسية وعدد كبير من القبائل الفرعية. بعد فترة من هذا الانقسام المدمر، من شأن الشخصية الموحدة أن تخدم البلاد بشكل جيد. كان محمد عبد العزيز، وزير الخارجية من 2013 إلى 2014، محقًا في القول بأن عودة النظام الملكي هي الخيار الأفضل لاستعادة الاستقرار والأمن.
قبل انقلاب عام 1969 حكم الملك إدريس ليبيا وكانت شعبيته عنصرا حاسما في نجاح النظام. تضمنت القوات المسلحة، التي ترأسها إدريس رمزياً ، والتي تشكلت إلى حد كبير من فلول القوة العربية الليبية في حقبة الحرب العالمية الثانية (المعروفة أيضًا باسم جيش السنوسي) ، قطاعًا عريضًا من الليبيين ، وبالتالي شكلت نظاماً موحداً بذاتها، في تناقض صارخ مع الوضع اليوم.
عين ولي عهد إدريس حسن السنوسي نجله محمد رئيسًا للبيت الملكي الليبي قبل وفاته في لندن عام 1992. اليوم، يمكن لمحمد – المنفي منذ عام 1988 – أن يلعب نفس الدور الموحد الذي لعبه إدريس. إنه الشخص الأفضل والأكثر شرعية للقيام بذلك، اذ أعرب في عام 2011 عن رغبته باستعادة دستور عام 1951 في البرلمان الأوروبي. بعد أن كان في المنفى لأكثر من ثلاثة عقود، سيعود محمد إلى ليبيا سالماً من الشجار السياسي الذي اتسم بالفساد والقبلية وعدم الاستقرار.
إذا كانت الأمم المتحدة، كما ادعت دي كارلو، تريد حقاً دعم” تنفيذ عملية قائمة على المصالحة والعدالة الانتقالية بقيادة الليبيين ولأجلهم وتضمن حقوقهم “، يجب أن تضع ثقلها لاستعادة دستور 1951 وإخراج المرتزقة والقوات الأجنبية من ليبيا. وهذا هو أفضل طريق للمضي قدما بالنسبة لبلد مزقته الانقسامات المدمرة، الداخلية والخارجية على حد سواء.
إن العودة إلى الفترة التي كانت فيها ليبيا دولة دستورية مدنية قبل اختطاف الدولة من قبل ضباط الجيش يمكن أن ينقذ ليبيا من التدخل الأجنبي ويعيد الدولة الى مسارها الذي يقوده ويملكه الليبيون نحو الاستقرار والأمن والازدهار.
مصطفى الصغزلي هو مدير البرنامج الليبي لإعادة الدمج والتنمية (LPRD)يتمتع بأكثر من عشرين من الخبرة في تصميم استراتيجيات تسهل إزالة التطرف وإعادة دمج المقاتلين السابقين في المجتمع. لقد رأى أكثر من 160.000 مقاتل سابق في ليبيا يتخرجون من برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج (DDR) وهو أحد أبرز الخبراء الليبيين في هذا المجال.