العامل الموحِّد الذي كان (ولا يزال يمكن أن يكون) ملكية دستورية
باتريك كوراث
إنّ بناء حل ديمقراطي مُستحق وفعال لليبيين ليس بالمهمة اليسيرة، فقد أثقلت الأحداث التاريخية الأخيرة كاهل الدولة. فعلى مدار عقد من الزمان ، حارب خلاله الشعب الليبي نظاماً استبدادياً وتمكن من التغلب عليه بنجاح، ولكنه تورط في حرب أهلية وحشية، وتحمل تبعات ما تحول فيما بعد إلى حرب بالوكالة بين عدد كبير من القوى الأجنبية التي تسعى إلى تعزيز مصالحها الشخصية على حساب مصالح الشعب الليبي.
من الصعب دائمًا إدارة فترات ما بعد الاستبداد والصراع والتدخل الخارجي، ناهيك عن تعرض بلد ما لهذه الفترات في آن واحد. تعزز هذه الترِكات الميل إلى عدم الثقة والشقاق، مما ينذر بحدوث انتكاساتٍ مفاجئة إلى حالة عدم الاستقرار، وذلك على الرغم من رغبة هذه الشعوب تفادي هذه المآزق أثناء عملية وضع الدستور وبناء الدولة. لذلك يجب ضمان استمرارية الدولة الليبية الديمقراطية بمساعدة المؤسسات التي عملت تاريخياً على توحيد الشعب الليبي.
في فترة ما قبل القذافي كان الليبيون متحدين بالفعل بموجب دستور عام 1951 على الرغم من أن الكثير من مواطني اليوم لا يتذكرون هذه الفترة الزمنية. من خلال الجمع بين الممارسات الديمقراطية الرئيسية والتي تضمن مصالح جميع أطياف الشعب المتنوعة من المواطنين في ليبيا، قدمت المَلكية الدستورية إجابة قوية للعديد من التحديات التي نشهدها اليوم.
لم ينقسم الليبيون مع مرور الوقت، بل انقسموا بسبب الرجل الذي وجّه الأمة الليبية لتحقيق مصالحه الأنانية وزرع الفتنة بين أولئك الذين اعتبرهم أعداء لبعضهم البعض. لقد حان الوقت لتجاوز هذه الانقسامات السطحية وبناء مستقبل لليبيا كدولة موحدة.
النظام الملكي الدستوري يساوي الوحدة والاستقرار
على الرغم من اختلاف وتنوع معتقداتهم الأيديولوجية ومدى قوتهم، فإن الملوك يجلبون الاستقرار إلى نظام الحكم. في ليبيا الديمقراطية، من المؤكد أن الملك سيلتزم بدعم سيادة القانون ومصالح المواطنين دون أي شكل من أشكال الانفراد في سن القوانين واداء الواجبات التنفيذية للحكم – تمامًا كتلك الطريقة التي يعمل بها الملوك في الممالك المزدهرة في السويد وهولندا وبريطانيا العظمى واليابان. كما يمكن النظر إلى الدور الذي تلعبه المَلكيات الدستورية خارج الديمقراطيات الغربية المستقرة، فالمملكة الأردنية وتايلاند هما دليلان آخران على الدور الإيجابي الذي تلعبه الملكيات الدستورية في المجتمعات المنقسمة.
تكمن القوة الحقيقية للملك في العمل كمصدر للوحدة والاستمرارية في أي بلد ديمقراطي. إن ليبيا بحاجة ماسة إلى شخصية قيادية رمزية نظراً لما يتضمنه تاريخها الحديث من تشرذم وانقسامات مستمرة والتي بالتالي تسبب اختراقا لنسيج المجتمع.
نظرًا لأن هيئة صياغة الدستور قررت إرجاء العديد من المسائل السياسية الحساسة وتركها للهيئات التشريعية المستقبلية لحلها، فمن المتوقع أن تَظهر مناقشات بارزة للغاية ومثيرة للانقسام. عند مواجهة الجمود السياسي الذي يبدو غير قابل للحل، فإن وجود الملك يضمن اذا تم اللجوء أو الاضطرار إلى حل الحكومة أن لا يؤدي هذا بالتالي إلى تفكك الدولة ككل.
يؤمِّن فصل الملك عن السياسات الحزبية ضمان هوية الليبيين كشعب واحد بغض النظرعن الإدارات السياسية المختلفة والاختلافات والاشتراطات البرلمانية، وبالتالي تعزيزها مع مرور الوقت. سيتطلب الشعور بالهوية الوطنية الموحدة وقتًا وجهدًا للانتشار في ليبيا اذ أنها بلد مقسم حسب المصالح الاقتصادية المختلفة للمناطق الأساسية في البلاد بالإضافة إلى الاعتبارات السياسية المحلية للقبائل المختلفة.
الاجتماع تحت علم واحد، بدوره، أمر مهم لتعزيز النظام الديمقراطي الجديد. غالبًا ما يستغرق الأمر سنوات إن لم يكن عقودًا حتى تصبح المشاركة الديمقراطية للمواطنين في الانتخابات والسعي إلى التوافق بين المسؤولين المنتخبين هو المعيار المُتَّبَع على نطاق واسع لتسوية الخلافات وتحقيق التقدم المنشود.
على الرغم من استثنائه من القضايا الحزبية، يلعب الملك دورًا حاسمًا في نشر الأفكار ذات الطبيعة السياسية الأساسية مثل أفكار السلام عبر التسويات والاستقرار للجميع والثقة في نظام الحكم.
تمثيل المصالح وحماية الحقوق
ليس بالامكان التعامل مع كل رغبات وتطلعات الفئات الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الليبي على نحو ملائم خلال حقبة سياسية واحدة. في مثل هذه الحالات، يتمتع الملك الدستوري بالقدرة على التدخل وحث المشرعين علنًا على مراعاة مخاوف ومصالح الجماعات المهمشة مع طمأنة جميع الأطراف بأن مسائلهم يتم الالتفات إليها بالفعل على أعلى مستويات الحكومة.
على الجانب الآخر، عن طريق التحكيم، يمكن للملك الدستوري أن يمنع الأنظمة الديمقراطية الجديدة من التراجع وخلق ما يعرفه أليكسيس دي توكفيل بأنه “طغيان الأغلبية” الذي يتجاهل مجموعات وأقليات معينة. يمكن للملوك الدستوريين تطبيق نفس القوة الموازنة للحكومات أو القادة التنفيذيين الفرديين الذين قد يدوسون على الحقوق الإنسانية والسياسية للأفراد، أو يحاولون إضعاف الترتيبات الدستورية التي تضمنها.
تسهيل التنمية
في مجتمعات ما بعد الصراع، تعتبر التنمية الاقتصادية حتمية مثل تنمية الهياكل السياسية. إن اتباع نهج دستوري بقيادة ملك سيكون جزءًا لا يتجزأ من هذا الصدد، كما يلزم أيضاً إعطاء الأولوية لحماية القوانين الأساسية اللازمة لتحسين مكانة ليبيا الدولية.
تتأثر معدلات الاستثمار الأجنبي المباشر (FDI) على الفور بالأحداث الجارية في المنطقة. وقد شوهد هذا في أكثر لحظات الاستقرار المؤقتة والتي شجعت مثل هذه الاستثمارات في الاقتصاد الليبي على مدى السنوات العشر الماضية.
ما يبدو أنه خط فكري اقتصادي بحت يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالديمقراطية. إن الاستقرار طويل الأمد للدولة الذي لا يمكن إلا لملك دستوري أن ييسره هو عنصر أساسي في استعادة الشرعية الليبية، مما يحفز زيادة حجم الاستثمارات التي تشتد الحاجة إليها باستمرار في اقتصاد البلاد الخارجي. التنمية الاقتصادية العامة والزيادة الملحوظة في مستويات المعيشة على مستوى الفرد المواطن هي حجر الزاوية لبناء الثقة في نظام الحكم وضمان مستقبل سلمي للجميع.
إن الجمع بين الإجراءات الديمقراطية ونظام الملكية الدستورية سيصون بالضرورة الاستقرار، ويحمي الحريات الفردية والجماعية، ويسهل التنمية الاقتصادية على نطاق واسع. ومع ذلك، يمكن لمثل هذه الصيغة أن تتجذر فقط في البلدان التي لديها بعض تقاليد الملكية والسلالة الحاكمة الشرعية. لحسن الحظ، ليبيا لديها كلا الأمرين. في النموذج الذي وضعه دستور عام 1951 – والذي أطاح به العقيد القذافي – وعائلة السنوسي المنفية، تتمتع ليبيا بموقع فريد مع خيار قابل للتطبيق قادر على إعادة تأسيس البلاد كقائد إقليمي مستقر ومزدهر.
إذا كان العقد الماضي من الفوضى في ليبيا قد علمنا أي شيء، فهو أن الحلول الإبداعية التي فرضتها الكيانات الأجنبية ببساطة لا تنجح. وقد تم التأكيد على ذلك من خلال عقد من الإخفاقات في الشرق الأوسط، وأبرزها في العراق وأفغانستان. ليبيا، على عكس العديد من البلدان الأخرى في المنطقة، لديها نموذج ضَمِنَ في الماضي الاستقرار المحلي وسهّل الازدهار الاقتصادي.
مع عقد الانتخابات العامة المقبلة في ديسمبر القادم، آن أوان اتباع نهجٍ تاريخيٍ مجرب سابقاً وإعادة فتح النقاش حول فوائد الملكية الدستورية التي تمثل بالضرورة وصفة لمستقبل ديمقراطي أكثر نجاحًا لليبيا.