الأسرة السنوسية
يقول المؤرخ الفرنسي مارسيل ايميري ” أن معظم الثورات التي وقعت في شمال افريقيا خلال نهاية القرن الثامن وأوائل القرن التاسع عشر كانت قد أعدت ونظمت ونفذت بوحي وفكر الطرق الصوفية “.ويعني المؤرخ الفرنسي بهذه الثورات – في المقام الأول – هي ، تلك التي قادتها الحركة السنوسية التي بعثها وقادها الامام محمد بن على السنوسي والطريقة ” القادرية ” الي تزعمها الأمير عبد القادر الجزائري.
والى جانب الدور الخطير فى مقاومة الاستعمار، التي نهضت به السنوسية منذ أن تأسست فى النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري في غرب وآواسط أفريقيا ، فقد ترك السنوسيون أثرا واضحا في تسيير حكومة البلاد الداخلية فى ليبيا جعل الدولة العثمانية تعتمد عليهم اعتمادا أساسيا عند التصدي للغزو الاستعمار الايطالي.
وحين أغار الايطاليون فى نهاية سنة 1911 على ليبيا حملت الحركة السنوسية راية المقاومة لأكثر من ثلث قرن ، وقادت أشد المعارك ضراوة وخاصة في النصف الشرقي لليبيا واقليم برقة .وقد عرفت الحركة السنوسية منذ بدء نشأتها حتى نهايتها أربعة زعماء وقادة مصلحين كونوا حركتها وسيروا أمورها ونشروا تعاليمها وهؤلاء هم : مؤسس الطريقة الامام محمد بن على السنوسي وابنه السيد محمد المهدي والسيد أحمد الشريف أما الرابع فقد كان السيد محمد إدريس السنوسي الذي توحدت على يديه وبجهوده أقاليم ليبيا الثلاثة : برقة وطرابلس وفزان. واستقلت بقيادته الحكيمة ليبيا وأصبحت أول مملكة دستورية عصرية ذات سيادة ومشروع حضاري وتنموي فى تاريخ هذه الأرض.
تتميّز هذه الطريقة الصوفية بالاهتمام بشئون الدنيا وبناء الدولة وتربية الفرد القوي وتكوين المواطن المستنير وتنظيم الحياة العامة للبشر.ويتصل نسب الامام محمد بن على السنوسي بالامام على بن أبي طالب كرّم الله وجهه ، عن طريق الملوك الأدارسة الحسنيين الذين حكموا الشمال الأفريقي والمغرب الأقصى . وكان محمد بن على السنوسي قد ولد فى الواحد والعشرين من شهر ديسمبر سنة 1787 بضاحية (ميثا ) الواقعة على ضفة وادي الشلف بمنطقة تابعة لمدينة مستغانم بالجزائر. وتوفي والده ووالدته بعد سنتين من مولده وتولت عمته السيدة فاطمة الزهراء بنت السنوسي ابن العربي كفالته حسب وصية شقيقها. وكانت هذه السيدة شخصية قوية وامرأة متعلمة تتولى التدريس والإفتاء فى شئون الحياة ويقصدها الناس من مختلف المناطق لأخذ المشورة وحل النزاعات والاستفادة بما حباها الله من علم ومعرفة.
تعلم محمد بن على السنوسي بمسقط رأسه مستغانم ثم أرسلت به عمته إلى مدينة فاس بالمغرب فالتحق بجامعة القرويين وبقي بها حتى أصبح واحدا من أعلامها وشيوخها الكبار. بعد ذلك عاد إلى الجزائر، ولكنه لم يطق البقاء بها بعد احتلال فرنسا لها سنة 1830. فتوجه الى تونس ثم إلى ليبيا ، ومنها إلى مصر. وواصل سفره الى مكة فاليمن. وبعد هذا الترحال المتواصل تمكن من التعرف على بلاد المسلمين والاطلاع على أحوالها ومشاكلها وأسباب انحطاطها وقضاياها وأخذ يبلور آراءه ويجمع قواعد طريقته السنوسية. واتضحت معالم الطريق أمام دعوته للاصلاح وكيفية النهوض بالأمة ومقاومة عوامل الانحطاط والتأخر والغزو الأجنبي والاستعمار .اختار محمد السنوسي الجبل الأخضر كمستقر له بشرق ليبيا وبنى فيه أول زاوية انطلقت منها حركته وأخذت فى الانتشار .
كان الامام محمد بن على السنوسي يؤمن أن الإصلاح ينبغي أن يبدأ فى القضاء على الجهل وتصحيح الممارسات الخاطئة للاسلام مثل الزهد السلبي الذي يحتوي معاني الخمول والتواكل والاستجداء. هذا النوع من الزهد هو الذي كان يطبع معظم الطرق الصوفية فى ذلك الزمن .وقد قامت دعوته على انشاء الزوايا السنوسية. فالزاوية هي مركز ديني وثقافي واجتماعي وعسكري ينشئها الامام أو أحد أتباعه المقربين ليجمع فيها الاخوان السنوسيين والآتباع والمريدين. وكان مركز دعوة الامام محمد على السنوسي فى البداية ، بالجبل الأخضر وأقام زاوية فى مدينة البيضاء وسميت باسمه ثم انتقل الى مدينة الجغبوب التي انتشرت منها الزوايا فى بقية بلدان برقة وطرابلس.
توفي الامام محمد ابن علي السنوسي سنة 1860 ودفن فى زاويته ببلدة الجغبوب واحتفلت ليبيا سنة 1960 أي بعد عشر سنين من إعلانها دولة مستقلة بمرور مائة عام على وفاة الامام محمد على السنوسي. الا أن ” الانقلابيين العساكر” الذين أطاحوا بالدولة الليبية المستقلة فى سبتمبر 1969 جردوا حملة عسكرية الى بلدة الجغبوب سنة 1984 ليقوموا بهدم زاوية جغبوب وينسفوا ضريح الامام وينبشوا قبره ويستخرجوا الرفات ويلقوا به فى مكان مجهول بفيافي الصحراء.
خلف الامام محمد بن على السنوسي ، على زعامة الطريقة السنوسية ابنه السيد محمد المهدي الذي ازدهرت تحت زعامته الطريقة واكتسبت سمعة واسعة وتمكن من ارساء النظام والسلام فى برقة ، ولكن المنية أدركته ، فتوفي في عام 1902 مع بدايات المعارك التي نشبت بين السنوسيين والفرنسيين فى تشاد ، ودفن فى الكفرة وتولى ابنه السيد محمد ادريس زعامة الطريقة الا أن صغر سنه عند وفاة والده إذ كان عمره آنذاك 13 سنة جعل ابن عمه السيد احمد الشريف هو الذي يتولى الزعامة فى هذه الفترة وقيادة الجهاد المسلح ضد الغزو الايطالي الذي كان قد بدأ اجتياحه لليبيا فى أكتوبر 1911 .
بلغ السيد محمد ادريس سنه المناسب وتولى قيادة الحركة السنوسية وواصل المقاومة ضد الايطاليين من داخل البلاد حتى سنة 1931.عندها اضطر الى الانتقال الى مصر والبقاء بها حتى نشبت الحرب العالمية الثانية فأعاد تشكيل جيشه السنوسي وحارب مع دول الحلفاء، حتى تمت هزيمة الطليان ودول المحور وتمكن من العودة الى ليبيا ليقود جهاد الليبيين من أجل اتمام تحرير الوطن وتكوين الدولة الليبية المستقلة.
وفى الواحد والعشرين من نوفمبر 1949 اعترفت الأمم المتحدة باستقلال ليبيا بأقاليمها الثلاثة. وبانتهاء المرحلة الانتقالية بايع الليبيون بواسطة ممثليهم فى الجمعية الوطنية السيد محمد ادريس السنوسي ملكا دستوريا على المملكة الاتحادية الليبية. وأعلن الملك ادريس استقلال الدولة بولاياتها الثلاث فى الرابع والعشرين من ديسمير 1951. ليصدق بعدها على دستورها العصري المستوحي من الوثيقة الدولية لحقوق الانسان والتى كانت الجمعية الوطنية الممثلة لكل السكان قد وضعت صيغته ، وعين الملك ادريس شقيقه الأمير محمد الرضا وليا للعهد الا أن المنية عاجلت ولي العهد عام 1955 فقام الملك بعدها عام 1956 بتعيين ابن شقيقه الثالث الأمير الحسن الرضا وليا للعهد.
وفي يوم الاثنين الأول من سبتمبر 1969 تآمر عدد من صغار الضباط والجنود واستولوا على السلطة عبر انقلاب عسكري والغوا الدستور. وقاموا بالقاء القبض على جميع رجالات الدولة وعلى رأسهم ولي العهد الأمير الحسن الرضا. وكان الملك إدريس يتلقى علاجا فى الخارج مع عائلته عند وقوع الانقلاب، وكان ولي العهد الامير الحسن الرضا هو الذي يسير شؤون الدولة نيابة عنه. وتوجه الملك للاقامة في مصر حتى وفاته في 1983 ودفن جثمانه في مقبرة البقيع في المدينة المنورة في المملكة العربية السعودية. وتوفيت زوجته الملكة فاطمة في القاهرة عام 2009.
أما ولي العهد فقد نقل من منزله وسجن لمدة سنتين. وبعد ذلك وضع تحت الإقامة الجبرية الصارمة لمدة سبع سنوات معزولا عن جميع الأصدقاء والمعارف. وفي العام 1984 أحرق منزله أمام أعين أسرته على أيدي “اللجان الثورية” وأفراد من جهاز المخابرات. وقد أصيب ولى العهد بعد هذا بجلطة فى المخ. مما اضطره في العام 1988 إلى السفر إلى المملكة المتحدة لتلقي العلاج يرافقه نجله الأمير محمد، وانضم إليه جميع أفراد أسرته فيما بعد. وتوفي ولى العهد بلندن سنة 1992، ونقل جثمانه يرافقه خمسة من أولاده جواً إلى المدينة المنورة ليدفن بجوار الملك إدريس في مقبرة البقيع.
وبتاريخ 18 يونيو 1992 قرئت آخر وصية للمغفور له ولي العهد الأمير الحسن الرضا السنوسي في مؤتمر صحافي عقد بلندن وحضره حشد من الصحفيين والأفراد، بحضور أولاده الخمسة. وفي هذه الوصية عين المغفور له ابنه الثاني الأمير محمد الحسن الرضا وريثا لعرش ليبيا.